تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

راجع إلى اللحوق لا إلى الموت.

وقوله تعالى : (آمِنِينَ) حال من فاعل لتدخلن وكذا (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) أي : كلها (وَمُقَصِّرِينَ) أي : بعضها أي منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين لا تخشون إلا الله تعالى وفيه إشارة إلى أنهم يتمون الحج من أوّله إلى آخره فقوله (لَتَدْخُلُنَ) فيه إشارة إلى الأوّل وقوله (مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ) إشارة إلى الآخر فإن قيل محلقين حال الداخلين والداخل لا يكون إلا محرما والمحرم لا يكون محلقا أجيب بأنّ قوله آمنين معناه متمكنين من أن تتموا الحج محلقين ومقصرين وأشار بصيغة التفعيل إلى الكثرة فيهما غير أن التقديم يفهم أنّ الأول أكثر.

وقوله تعالى : (لا تَخافُونَ) أي لا يتجدّد لكم خوف بعد ذلك يجوز أن يكون مستأنفا وأن يكون حالا ثالثة إمّا من فاعل لتدخلنّ أو من ضمير آمنين أو محلقين أو مقصرين فإن كانت حالا من آمنين أو حالا من فاعل لتدخلنّ فهي حال للتوكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدّرة إلا قوله لا تخافون إذا جعل حالا فإنها مقدّرة أيضا فإن قيل قوله تعالى لا تخافون معناه غير خائفين وذلك يحصل بقوله تعالى آمنين أجيب بأنّ فيه كمال الأمن لأنّ بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم. فقال تدخلون آمنين وتحلقون ويبقى أمنكم بعد خروجكم من الإحرام فعلم أي الله في الصلح من المصلحة ما لم تعلموا من المصالح فإنّ الصلاح كان في الصلح وإنّ دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهو قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) [الفتح : ٢٥] الآية.

فإن قيل : الفاء في قوله تعالى : (فَعَلِمَ) فاء التعقيب فقوله تعالى : (فَعَلِمَ) وقع عقب ماذا أجيب : بأنه إن كان المراد من (فَعَلِمَ) وقت الدخول فهو عقب صدق وإن كان المراد فعلم المصلحة فالمراد علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب والتقدير لما حصلت المصلحة في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجدّدة (فَجَعَلَ) أي : بسبب إحاطة علمه (مِنْ دُونِ) أي : أدنى رتبة من (ذلِكَ) أي : الدخول العظيم في هذا العام (فَتْحاً قَرِيباً) يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح واختلاط بعض الناس بسبب ذلك ببعض الموجب لإسلام ناس كثيرة تتقوون بهم فتكون تلك الكثرة والقوّة بسبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال فقتل القتلى ترفقا بأهل حرم الله إكراما لهذا النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) أي : الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه (بِالْهُدى) أي : الكامل الذي يقتضي أن يهتدي به أكثر الناس تأكيد لبيان صدق الله تعالى للرّؤيا لأنه لما كان مرسلا لرسوله ليهدي لا يريه ما لا يكون فيحدث الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سببا للضلال.

فإن قيل : الرؤيا للواقع قد تقع لغير المرسل أجيب : بأنّ ذلك قليل لا يقع لكل أحد تنبيه : الهدى يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٥] وعلى هذا قوله تعالى : (وَدِينِ الْحَقِ) هو ما فيه من الأصول والفروع ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة فيكون قوله تعالى (وَدِينِ الْحَقِ) إشارة إلى ما شرع والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هدى.

٤١

تنبيه : دين الحق يحتمل أن يكون المراد دين الله لأنّ الحق من أسماء الله تعالى ويحتمل أن يكون الحق نقيض الباطل فكأنه قال ودين الأمر الحق (لِيُظْهِرَهُ) أي : دينه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي : جميع باقي الأديان (وَكَفى بِاللهِ) أي : الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال (شَهِيداً) أي : على أنك مرسل بما ذكر.

كما قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) أي : الملك الذي لا كفؤ له فهو الرسول الذي لا رسول يساويه فإنه رسول إلى جميع الخلق من أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدّمه بالقوّة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه وقد أخذ على الأنبياء كلهم الميثاق بأن يؤمنوا به إن أدركوه وأخذ ذلك الأنبياء على أممهم وأشار بذكر هذا الاسم بخصوصه في سورة الفتح إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الخاتم بما أشارت إليه الميم التي مخرجها ختام المخارج واستنبط بعض العلماء من محمد ثلاثمائة وأربعة عشر رسولا فقال فيه ثلاث ميمات وإذا بسطت كل منهما قلت فيه م ي م وعدّتها بحساب الجمل الكبير تسعون فيحصل منها مائتان وسبعون وإذا بسطت الحاء والدال قلت دال بخمسة وثلاثين ، وحاء بتسعة فالجملة ما ذكر والاسم واحد فتم عدد الرسل كما قيل أنهم ثلاثمائة وخمسة عشر وقد تقدّم الكلام على أولي العزم منهم في سورة الأحقاف.

تنبيه : يجوز أن يكون محمد خبر مبتدأ مضمر لأنه لما تقدّم (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) دل على ذلك المقدّر أي هو أي الرسول بالهدى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) بدل أو بيان أو نعت وأن يكون محمد مبتدأ وخبره رسول الله وقيل غير ذلك.

ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي : بمعية الصحبة من الصحابة وحسن التبعية من التابعين لهم بإحسان (أَشِدَّاءُ) أي : غلاظ (عَلَى الْكُفَّارِ) منهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته لأنّ الله تعالى أمرهم بالغلظة عليهم لا يرحمونهم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي : متعاطفون متوادّون كالوالد مع الولد.

كما قال تعالى (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] وعن الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه ، ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التذلل وهذا التعطف فيشددوا على من ليس من دينهم ويتحاموه ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام متعطفين بالبر والصلة والمعونة وكف الأذى والاحتمال منهم.

تنبيه : والذين معه مبتدأ خبره أشدّاء على الكفار ورحماء بينهم خبر ثان وقيل غير ذلك. ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله سبحانه وتعالى (تَراهُمْ) أي : أيها الناظر لهم (رُكَّعاً سُجَّداً) أي : دائمين الخشوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملكية على صفاتهم الحيوانية فكانت الصلاة آمرة بالخير مصينة عن كل نقص وضير.

ثم أشار إلى إخلاصهم بقوله تعالى (يَبْتَغُونَ) أي : يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليبا لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم (فَضْلاً) أي : زيادة من الخير (مِنَ اللهِ) أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال من الجلال والجمال الذي أعطاهم ملكة العظمة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرأفة على أوليائه (وَرِضْواناً) أي : رضا منه عظيما بما نالهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن

٤٢

إليهم لا يرون سيدا غيره ولا محسنا سواه.

ثم بين كثرة صلاتهم بقوله تعالى : (سِيماهُمْ) أي : علامتهم التي لا تفارقهم (فِي وُجُوهِهِمْ) ثم بين تعالى العلامة بقوله (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) وهو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] رواه عطية العوفيّ عن ابن عباس. وعن أنس هو استنارة وجوههم من كثرة صلاتهم. وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال مجاهد هو السمت الحسن والخشوع والتواضع والمعنى أنّ السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك : هو صفرة الوجه. وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال عكرمة : هو أثر التراب على الجباه. قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الثياب. وقال عطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لأنّ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.

قال بعضهم : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. قال البقاعي : ولا يظن أنّ من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإنّ ذلك من سيما الخوارج. وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثقات ومنه حديث أبي الدرداء أنه رأى رجلا بين عينيه مثل ثغنة البعير فقال : لو لم يكن هذا كان خيرا يعني كان على جبهته أثر السجود وإنما كرهها خوفا من الرياء عليه. وعن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود» (١) وعن بعض المتقدّمين : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير فلا ندري أثقلت الرؤوس أم خشنت الأرض. وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق.

ثم أشار تعالى إلى علو مرتبة ذلك الوصف بقوله سبحانه : (ذلِكَ) أي : هذا الوصف العالي جدا البديع المثال البعيد المنال (مَثَلُهُمْ) أي : صفتهم (فِي التَّوْراةِ) وههنا تم الكلام فإن مثلهم : مبتدأ وخبره في التوراة وقوله تعالى : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي : الذي نسخ الله تعالى به بعض أحكام التوراة مبتدأ وخبره (كَزَرْعٍ) أي : مثل زرع (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي : فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ وهل يختص ذلك بالحنطة فقط أو بها وبالشعير أو لا يختص خلاف مشهور قال الشاعر (٢):

أخرج الشطأ على وجه الثرى

ومن الأشجار أفنان الثمر

وقرأ ابن كثير وابن ذكوان : بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنهر والنهر وأدغم أبو عمرو الجيم في الشين بخلاف عنه ثم سبب عن هذا الإخراج قوله تعالى : (فَآزَرَهُ) أي : قواه وأعانه. وقرأ ابن ذكوان : بقصر الهمزة بعد الفاء والباقون بالمدّ. (فَاسْتَغْلَظَ) أي : فطلب المذكور من الزرع والشطء الغلظ وأوجده فتسبب عن ذلك اعتداله (فَاسْتَوى) أي : قوي واستقام وقوله تعالى : (عَلى سُوقِهِ) متعلق باستوى ويجوز أن يكون حالا أي كائنا على سوقه أي قائما عليها ، هذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنجيل أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون. قال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٤٣

يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقيل : الزرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشطء : أصحابه والمؤمنون. وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين معه أبو بكر الصدّيق. أشدّاء على الكفار : عمر بن الخطاب. رحماء بينهم : عثمان بن عفان. تراهم ركعا سجدا : علي بن أبي طالب يبتغون فضلا من الله العشرة المبشرون بالجنة كمثل زرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرج شطأه أبو بكر فآزره عمر ، فاستغلظ عثمان يعني استغلظ عثمان بالإسلام ، فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه استقام الإسلام بسيفه.

(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) قال : المؤمنون (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قول عمر لأهل مكة بعد ما أسلم : لا يعبد الله سرا بعد اليوم روى أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أرحم أمّتي أبو بكر ، وأشدّهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأفرضهم زيد ، وأقرؤهم أبيّ ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ ابن جبل ، ولكل أمّة أمين وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح» (١) وفي رواية أخرى وأقضاهم علي وروى بريدة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة» (٢).

تنبيه : يعجب حال أي معجبا وهنا تم الكلام.

وقوله تعالى (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فيه أوجه : أحدها : أنه متعلق بمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع في نمائهم وقوّتهم. قال الزمخشري : أي شبههم الله تعالى بذلك ليغيظ. ثانيها : أنه متعلق بما دل عليه قوله تعالى (أَشِدَّاءُ) متعلق على الكفار الخ أي : جعلهم بهذه الصفات ليغيظ. ثالثها : أنه متعلق بقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ) أي : الملك الأعظم (الَّذِينَ آمَنُوا) لأنّ الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا وما أعدّ الله لهم في الآخرة غاظهم ذلك. وقوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فيه إشارة إلى تصديق دعواهم ومن في قوله تعالى : (مِنْهُمْ) للبيان لا للتبعيض لأنهم كلهم كذلك فهي كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصرا عما يجب لله تعالى من العبادة. أشار إلى ذلك بقوله تعالى : (مَغْفِرَةً) أي : لما يقع منهم من الذنوب والهفوات (وَأَجْراً عَظِيماً) بعد ذلك الستر وهو الجنة. وهما أيضا لمن بعدهم ممن يأتي.

فائدة : قد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلوّ نصرهم رضي الله عنهم وحشرنا معهم نحن ووالدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه.

قال : وهذا آخر القسم الأوّل من القرآن ، وهو المطوّل وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاصلهما : الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهرا. كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما : نصره له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحال على من قصده بالضر باطنا وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح مكة» (٣) حديث موضوع. وقال ابن عادل : روي أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) في التطوّع حفظ في ذلك العام ولم أره لغيره ا. ه.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٢٧٩٠ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٥٥.

(٢) أخرجه بنحوه المتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٥١٥ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٨٧ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ١ / ٢٦٥.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٣٥٠.

٤٤

سورة الحجرات

مدنية وهي : ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الجبار المتكبر الذي أعز رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الرَّحْمنِ) الذي من عموم رحمته الآداب للتوصل إلى حسن المآب (الرَّحِيمِ) الذي خص أولي الألباب بالإقبال على ما يوجب لهم دار الثواب.

ولما نوّه سبحانه في القتال بذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصرّح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به وملأ سورة الفتح بتعظيمه وختمها باسمه ومدح أتباعه لأجله افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان (لا تُقَدِّمُوا) من قدم بمعنى تقدّم أي لا تتقدّموا وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه ، فيذهب الوهم كل مذهب ويجوز أن يكون حذفه من غير قصد إليه أصلا بل يكون النهي موجها إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا يطاق انتقامه (وَرَسُولِهِ) أي : الذي عظمته ظاهرة جدّا لا نهاية له ، لأنّ عظمته من عظمته ، ولذلك قرن اسمه باسمه واختلف في سبب نزول ذلك. فقال الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة. أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك «أن أناسا ذبحوا قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح» وقال : «من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم عجله لأهله

٤٥

ليس من النسك في شيء» (١).

وعن مسروق عن عائشة رضي الله عنها : أنه في النهي عن صوم يوم الشك. أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وعن ابن الزبير : «أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة وقال عمر بل أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي. فقال عمر : ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية» (٢). قال ابن الزبير : فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وعن ابن أبي مليكة : نزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) وهذا أنسب. وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين أي لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله. قال الرازي : والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات وتقدّم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة.

تنبيه : معنى بين يدي الله ورسوله أي : بحضرتهما لأنّ ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه. وحقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعا. كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع ، وقد جرت هذه العبارة هنا على ضرب من المجاز ، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلا.

وقيل : المراد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر الله تعالى تعظيم له وإشعار بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله (وَاتَّقُوا اللهَ) اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية ، فإنّ التقوى مانعة من أن تضيعوا حقه وتخالفوا أمره أو تقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال (سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأعمالكم.

ونزل فيمن رفع صوته عند النبيّ عليه الصلاة والسلام : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) أي : في شيء من الأشياء عند النطق إذا نطقتم (فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إذا نطق.

تنبيه : في إعادة النداء فوائد : منها أنّ في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) [لقمان : ١٣] ، (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ) [لقمان : ١٦] ، (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) [لقمان : ١٧] ، لأنّ النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه ، فإعادته تفيد تجدد ذلك ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانيا غير المخاطب أولا فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيد افعل كذا وكذا يا عمرو. فإذا أعاد مرة أخرى وقال : يا زيد قل يا زيد قل كذا وقل كذا يعلم أن المخاطب أولا هو المخاطب ثانيا. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني تأكيدا للأوّل كقولك : يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق وأنه لا يحسن أن يقول يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم ، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) أي : إذا كلمتموه سواء كان ذلك مثل صوته أو أخفض من صوته ، فإنّ ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ٩٦٥ ، ٩٦٨ ، ومسلم في الأضاحي حديث ١٩٦١ ، والنسائي في العيدين حديث ١٥٦٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٢.

(٢) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤٣٦٧ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٢٦٦ ، والنسائي في القضاة حديث ٥٣٨٦.

٤٦

(كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي : ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من ذلك فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين غيره.

فإن قيل : ما الفائدة في ولا تجهروا بعد لا ترفعوا؟.

أجيب : بأن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصوته والنهي عن الجهر منع من المساواة. أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى : (أَنْ) أي : كراهة أن (تَحْبَطَ) أي : تفسد فتسقط (أَعْمالُكُمْ) التي هي الأعمال بالحقيقة ، وهي الحسنات كلها (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي : بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه ، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر ، روى أنس بن مالك قال : «لما نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية جلس ثابت ابن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ثابت : نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بل هو من أهل الجنة» (١).

وروي لما نزلت هذه الآية «قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال : وما يبكيك يا ثابت. قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلب ثابتا البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره خبره فقال : اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش.

فقال له : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوك. فقال : اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك يا ثابت فقال : أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة. فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢) فأنزل الله عزوجل.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ) أي : يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين (أَصْواتَهُمْ) تخشعا وتخضعا ورعاية للأدب وتوقيرا (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام ، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب (أُولئِكَ) أي عالو الرتبة (الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ) أي : فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر (قُلُوبَهُمْ

__________________

(١) أخرجه بنحوه البخاري في المناقب حديث ٣٦١٣ ، وتفسير القرآن حديث ٤٨٤٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١١٩.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٢ / ٦٨.

٤٧

لِلتَّقْوى) أي : اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوما للخلق في عالم الشهادة ، كما كان له سبحانه في عالم الغيب. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي : لهفواتهم وزلاتهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لغضهم وسائر طاعاتهم. والتنكير للتعظيم.

قال أنس : فكنا أي بعد نزول هذه الآية في حق ثابت ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان في يوم حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار فانهزمت طائفة منهم فقال : أفّ لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له : اعلم أن فلانا رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عند فرس يستنّ في طوله ، وقد وضع على درعي ثوبه فائت أبا بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقل له : إن عليّ دينا حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤية فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.

واختلف في سبب نزول قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) فقال ابن عباس رضي الله عنهما : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى بني النضير وأمر عليهم عتبة بن حصن الفزاري فلما علموا هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عتبة وقدم بهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءهم بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا في أهله ، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى أبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجرة ، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم. فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا. فنزل جبريل عليه‌السلام فقال إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم فقالوا : نعم. فقال شبرمة : أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد وهو الأعور بن بسامة فرضوا به فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم» (١) فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) جمع حجرة وهي ما تحجره من الأرض بحائط ونحوه. كان كل واحد منهم نادى خلف حجرة لأنهم لم يعلموه في أيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء (أَكْثَرُهُمْ) أي : المنادي والراضي دون الساكت لعذر (لا يَعْقِلُونَ) أي : محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم ، فلم يصبروا بل فعلوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يفعل بعضهم ببعض.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي : المنادي والراضي (صَبَرُوا) أي : حبسوا أنفسهم ومنعوها من مناداتهم والصبر : حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها ، وهو حبس فيه شدّة وصبر. (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق (لَكانَ) أي :

__________________

(١) انظر البغوي في تفسيره ٤ / ٢٥٥ ، بلفظ : «أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو ...».

٤٨

الصبر (خَيْراً لَهُمْ) أي : من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة.

ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة. قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى ا. ه فإنهم لو تأدّبوا لربهم لزادهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم وأطلقهم بلا فداء. (وَاللهُ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (غَفُورٌ) أي : ستور ذنب من تاب من جهله (رَحِيمٌ) أي : يعاملهم معاملة الراحم ، فيسبغ عليهم نعمه. وقال قتادة : «نزلت في ناس من أعراب تميم جاؤوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين.

فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قم فأجبه فأجابه. وقام شاعر فذكر أبياتا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت : أجبه فأجابه. فقام الأقرع بن حابس فقال : إنّ محمدا لمولى تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ثم دنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يضرّك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكساهم ، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهيم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل فيهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ)(١) الآيات الأربع إلى قوله تعالى : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال زيد بن أرقم جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا نعش في جناحه. فجاؤوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات يا محمد. فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ) الآية وقيل : المراد بأكثرهم كلهم. لأنّ العرب تذكر الأكثر وتريد الكل احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام. لأنّ الكل ما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل.

ثم إنّ الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة ، وهي أنّ الله تعالى يقول مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحسانا لتلك العادة ، وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا قاطعا على رضاي بذلك منكم.

تنبيه : جعل الزمخشري أنهم من ولو أنهم فاعلا بفعل مقدر أي ولو ثبت صبرهم وجعل اسم كان ضميرا عائدا على هذا الفاعل. ولكن مذهب سيبويه أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم كان ضميرا عائدا على صبرهم المفهوم وجرى على الأوّل البيضاوي ، وعلى الثاني الجلال المحلي.

__________________

(١) انظر البغوي في تفسيره ٤ / ٢٥٥.

٤٩

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ) أي : في وقت من الأوقات (فاسِقٌ) أي : خارج من ربقة الديانة (بِنَبَإٍ) أي : خبر يعظم خطبه فيثير شرّا (فَتَبَيَّنُوا) صدقه من كذبه. فقال أكثر المفسرين : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وهو أخو عثمان لأمه. «وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد الوقعة واليا ومصدقا أي يأخذ منهم الصدقة وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي. فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهمّ أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث خالد ابن الوليد خفية في عسكره وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار. ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير وانصرف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره الخبر» (١) فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا) أي : بأذى (قَوْماً) أي : هم مع قوّتهم النافعة لأهل الإسلام برآء مما نسب إليهم (بِجَهالَةٍ) أي : مع الجهل بحال استحقاقهم لذلك (فَتُصْبِحُوا) أي : فتصيروا ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحا وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته (عَلى ما فَعَلْتُمْ) أي : من إصابتهم (نادِمِينَ) أي : غريقين في الأسف على ما فات مما يوقع الله تعالى في نفوسكم من أمور ترجف القلوب. وقال الرازي : هذا ضعيف لأنّ الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينقل عنه أنه قال وردت الآية لبيان ذلك حسب غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية مما يصدق ذلك ويؤيده أنّ إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطئ لا يسمى فاسقا فكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المنافقون : ٦] وقوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] وقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) [السجدة : ٢٠] الآية إلى غير ذلك ا. ه وقال ابن الخازن في تفسيره : وقيل هو عام نزلت لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهذا أولى من حكم الآية على رجل بعينه.

تنبيه : قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا) مفعول له كقوله تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ) [الحجرات : ٢] قال الرازي : معناه على مذهب الكوفيين لئلا تصيبوا وعلى مذهب البصريين كراهة أن تصيبوا وقرأ حمزة والكسائي : بعد التاء المثناة بثاء مثلثة وبعد الباء الموحدة بتاء مثناة فوق من التثبت أي : فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. والباقون بعد التاء المثناة بباء موحدة وبعدها ياء تحتية وبعدها نون من البيان.

(وَاعْلَمُوا) أي : أيتها الأمة (أَنَّ فِيكُمْ) أي : على وجه الاختصاص بكم ويا له من شرف (رَسُولَ اللهِ) أي : الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام فلا تقولوا الباطل فإنّ الله يخبره

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٣٣٩٥ ، والبغوي في تفسيره ٤ / ٢٥٥.

٥٠

بالحال (لَوْ يُطِيعُكُمْ) وهو لا يحب عنتكم ولا شيئا يشق عليكم (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي : الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم ، وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطواع لغيره التابع له فينقلب حينئذ الحال ويصير المتبوع تابعا ، والمطاع طائعا ، (لَعَنِتُّمْ) أي : لأثمتم دونه وهلكتم. لأنّ من أراد أن يكون أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تابعا لأمره فقد زين له الشيطان الكفران وقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ) أي : الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ) أي : حسنه (فِي قُلُوبِكُمْ) فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته استدراك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لبيان عذرهم ، وهو أنه من فرط حبهم للإيمان وكرهتهم للكفر كما قال تعالى : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) حملهم على ذلك لمّا سمعوا قول الوليد أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إخمادا لفعلهم وتعريضا بذم من فعل. قال الرازي : هذه الأمور الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل المزين وهو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان فقوله تعالى (كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) وهو التكذيب وهو في مقابلة التصديق بالجنان وأمّا الفسوق فقيل هو الكذب كما قاله ابن عباس قال تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) فسمى الكاذب فاسقا وقال البيضاوي : الكفر تغطية نعم الله بالجحود والفسوق الخروج عن القصد والعصيان الامتناع عن الانقياد. وقال بعضهم : الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة (أُولئِكَ) أي : الذين أعلى الله تعالى مقاديرهم (هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي : الكاملون في الرشد الثابتون الاستقامة وعلى دينهم وفي تفسير الأصفهاني الرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه.

وقوله تعالى : (فَضْلاً) مصدر منصوب بفعله المقدّر أي فضل وقيل : تعليل لكرّه أو حبب ، وما بينهما اعتراض فهو امتنان عظيم ودرجة عالية (مِنَ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي بيده كل شيء (وَنِعْمَةً) أي : وعيشا حسنا ناعما وكرامة (وَاللهُ) أي : المحيط بصفات الكمال (عَلِيمٌ) أي : محيط العلم يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل. (حَكِيمٌ) أي : بالغ الحكمة ، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها فكذلك وضع نعمته من الرسالة والإيمان على حسب علمه وحكمته ونزل في قضية.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية وهي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب حمارا ومرّ على ابن أبيّ فبال الحمار فسدّ ابن أبيّ أنفه فقال ابن رواحة لبول حماره : أطيب ريحا من مسكك فكان بين قومهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف. وعن أنس قال : «قيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أتيت عبد الله بن أبيّ فانطلق إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه وهو بأرض سبخة فلما أتاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥١

فقال : إليك عني فو الله لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم» (١).

ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وعن قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر : لآخذنّ حقي منك عنوة لكثرة عشيرته ، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف.

وعن سفيان عن السدي قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أمّ زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت.

وجمع تعالى قوله سبحانه : (اقْتَتَلُوا) نظرا للمعنى لأنّ كل طائفة جماعة وثنى الضمير في قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا) أي : أوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح (بَيْنَهُما) نظرا للفظ أي : أصلحوا بينهما بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى (فَإِنْ بَغَتْ) أي : أوقعت الإرادات السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير (إِحْداهُما) أي : الطائفتين (عَلَى الْأُخْرى) فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق (فَقاتِلُوا) أي : اطلبوا وأوجدوا مقاتلة (الَّتِي تَبْغِي) أي توقع الإرادة السيئة وتصرّ عليها وأديموا القتال لها (حَتَّى تَفِيءَ) أي : ترجع عما صارت إليه من حرّ القطيعة الذي كأنه حرّ الشمس حتى نسخه الظل إلى ما كانت فيه من البرد والخير الذي هو كالظل الذي نسخته الشمس.

وهو معنى قوله تعالى : (إِلى أَمْرِ اللهِ) أي : التزام ما أمر به الملك الذي لا يهمل الظالم بل لا بدّ من أن يقاصصه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالياء والباقون بتحقيقهما (فَإِنْ فاءَتْ) أي : رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل (فَأَصْلِحُوا) أي : أوقعوا الإصلاح (بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي : بالإنصاف ولا يحملنكم القتال على الحقد على المقاتلين فتحيفوا (وَأَقْسِطُوا) أي : وأزيلوا القسط بالفتح وهو الجور ، بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل الذي لا جور فيه في ذلك ، وفي جميع أموركم ثم علله ترغيبا فيه بقوله تعالى مؤكدا تنبيها على أنه من أعظم ما يتمادح به وردا على من لعله يقول أنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده إلا ضعيف (إِنَّ اللهَ) أي : الذي بيده النصر والخذلان (يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي : يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي : كلهم وإن تباعدت أنسابهم وبلادهم (إِخْوَةٌ) أي : في الدين لانتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان ولما كانت الأخوة داعية ولا بدّ إلى الإصلاح تسبب عنها قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) كما تصلحون بين أخويكم من النسب ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمور مبالغة في التقرير والتحضيض وخص الاثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهما الشقاق. وعن أبي عثمان الحيري : أنّ أخوة الدين أثبت من أخوة النسب فإنّ أخوة النسب

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلح حديث ٢٦٩١ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٩٩.

٥٢

تنقطع بمخالفة الدين وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : الملك الأعظم في مخالفة حكمه والإهمال فيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لتكونوا إذا فعلتم ذلك على رجاء عند أنفسكم أن يكرمكم الذي لا قادر على الإكرام في الحقيقة غيره بأنواع الكرامات كما رحمتم إخوانكم بإكرامكم عن إفساد ذات البين.

وعن الزهري عن سالم عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» (١).

تنبيه : في هاتين الآيتين دليل على أنّ البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنّ الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين يدل عليه ما روي عن عليّ بن أبي طالب سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي عن أهل الجمل وصفين أمشركون. فقال : لا من الشرك فرّوا فقيل : أمنافقون هم فقال : لا إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل : فما حالهم قال : إخواننا بغوا علينا.

والباغي في الشرع هو الخارج عن الإمام العدل بتأويل محتمل وشوكة لهم ومطاع تحصل به قوّة الشوكة ، وإن لم يكن لهم إمام والحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام أمينا فطنا ناصحا ينصحهم ما ينقمون فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها وإن أصروا نصحهم ثم أعلمهم بالقتال ، فإن استمهلوا اجتهد وفعل ما رآه صوابا.

والحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ويرد سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت غائلتهم ولا يستعمل في قتال إلا لضرورة ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق إلا لضرورة ، ولو أقاموا حدّا أو أخذوا زكاة وجزية وخراجا وفرّقوا سهم المرتزقة على جندهم صح ما فعلوه ، وما أتلفه باغ على عادل وعكسه إن كان بسبب قتال فلا ضمان على واحد منهما ، وإلا فعلى المتلف الضمان. قال ابن سهل : كانت في تلك الفتنة دماء يغرق في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه ولو أظهر قوم رأي الخوارج كترك الجماعات وتكفير ذي كبيرة ولم يقاتلوا فلا نتعرّض لهم.

روي أنّ عليا سمع رجلا يقول في ناحية المسجد : لا حكم إلا لله تعالى. فقال عليّ رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاثة لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفيء ما دام أيديكم مع أيدينا ولا نبدأكم بقتال فإن قاتلوا فحكمهم حكم قطاع الطريق ، وتفريعات أحكام البغاة مذكورة في الفقه. وفي هذا القدر كفاية.

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوقعوا الإقرار بالتصديق (لا يَسْخَرْ) أي : لا يهزأ والسخرية : هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته (قَوْمٌ) أي : ناس فيهم قوة المحاولة وهم الرجال وفي التعبير بذلك تنبيه على قيام الإنسان على نفسه وكفها عما تريده من النقائص منكرا لما أعطاه الله تعالى من القوّة (مِنْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في المظالم حديث ٢٤٤٢ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٨٠ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٨٩٣ ، والترمذي في الحدود حديث ١٤٢٦.

٥٣

قَوْمٌ) أي : من رجال ، فإنّ ذلك يوجب الشرّ لأنّ أضعف الناس إذا استهزئ به قوي لما يثور عنده من حظ النفس.

قال ابن عباس : «نزلت في ثابت بن قيس كان في أذنه وقر أي ثقل فكان إذا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم فضنّ أي بخل كل رجل منهم بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسا قام قائما فلما فرغ ثابت من صلاته أقبل نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخطى رقاب الناس ويقول تفسحوا تفسحوا فجعلوا يتفسحون حتى انتهى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينه وبينه رجل فقال له : تفسح فقال الرجل : قد أصبت مجلسا فاجلس. فجلس ثابت خلفه مغضبا فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال : من هذا. فقال له : أنا فلان فقال له ثابت : ابن فلانة ذكر أمّا له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه فاستحيا فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١).

وقال الضحاك نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل عمار وخبيب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم. ومعنى الآية : لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم ثم علل النهي بقوله تعالى : (عَسى) أي : لأنه جدير وخليق لهم (أَنْ يَكُونُوا) أي : المستهزأ بهم (خَيْراً مِنْهُمْ) فينقلب الأمر عليهم وتكون لهم سوء العاقبة. قال ابن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أحوّل كلبا وقال القشيري : ما استصغر أحد أحدا إلا سلط عليه ولا ينبغي أن يغتر بظاهر أحوال الناس ، فإنّ في الزوايا خبايا. والحق سبحانه يستر أولياءه في حجاب الظنة وكذا في الخبر «كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» (٢).

(وَلا) يسخر (نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) ثم علل النهي بقوله تعالى : (عَسى) أي : ينبغي أن يخفن من (أَنْ يَكُنَ) أي : المسخور بهنّ (خَيْراً مِنْهُنَ) أي الساخرات. روي أنها نزلت في نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيرن أمّ سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قال لها النساء يهودية بنت يهوديين.

تنبيهان : أحدهما : قال الرازي : القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم. والقائم بالأمور هم الرجال وعلى هذا ففي إفراد الرجال والنساء. فائدة ، وهي أنّ عدم الالتفات والاستحقار أن يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال لأنّ المرأة في نفسها ضعيفة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «النساء لحم على وضم» (٣) فالمرأة لا يوجد منها استحقار لرجل لأنها مضطرّة إليه في رفع حوائجها ، وأمّا الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهنّ ذلك.

__________________

(١) انظر البغوي في تفسيره ٤ / ٢٦٠.

(٢) أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٣٨٥٤ ، وابن ماجه في الزهد باب ٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٤١٥٤ ، ٣٤١٥٥ ،

(٣) ذكره ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٥ / ١٩٨. من حديث عمر بلفظ : «إنما النساء لحم على وضم ، إلّا ما ذبّ عنه».

٥٤

الثاني : في حكمة قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) هي أنهم إذا وجدوا منهم التكبر المقتضي إلى إحباط العمل جعل نفسه خيرا منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم ، وقال : أنا خير منه فصار هو خيرا منه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى (يَكُونُوا) أي يصيروا فإنّ من استحقر إنسانا لفقره أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويقوى الضعيف (وَلا تَلْمِزُوا) أي تعيبوا على وجه الخفية (أَنْفُسَكُمْ) بأن يعيب بعضكم بعضا بإشارة أو نحوها فكيف إذا كان على وجه الظهور فإنّكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة أو يعمل الإنسان ما يعاب به فيكون الإنسان قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سببا لأن يبحث عن عيوبه فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي : ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء فإنّ النبز يختص بلقب السوء. واختلف في هذا اللقب فقال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. وقال الحسن : كان اليهوديّ والنصرانيّ يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقال عطاء : هو أن يقول الرجل لأخيه يا حمار يا خنزير.

وعن ابن عباس : التنابز بالألقاب : هو أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله والحاصل أنه يحرم تلقيب الشخص بما يكره وإن كان فيه كالأعور والأعمش ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لا يعرفه إلا به وأمّا ألقاب المدح فنعما هي فقد لقب الصديق بعتيق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بن الوليد بسيف الله ، وما زالت الألقاب الحسنة في الجاهلية والإسلام.

قال الزمخشري : إلا ما أحدثه الناس في زماننا من التوسع حتى لقبوا السفلة بالألقاب العلية وهب أنّ العذر مبسوط فما أقول لمن ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين لعمري والله إنها الغصة التي لا تساغ. ومعنى اللقب : اسم زائد على الاسم يشعر بضعة المسمى أو رفعته والمقصود به الشهرة فما كان مكروها نهى عنه ، ويسنّ أن يكنى أهل الفضل الرجال والنساء وإن لم يكن لهم ولد وأمّا التكني بأبي القاسم فهو حرام.

وقيل : إنما يحرم في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط وقيل : إنما يحرم على من اسمه محمد ولا يكنى كافر ولا فاسق ولا مبتدع لأنّ الكنية للتكرمة وليسوا من أهلها بل أمرنا بالإغلاظ عليهم إلا لخوف فتنة من ذكره باسمه أو تعريفه كما قيل به في قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] واسمه عبد العزى ولا بأس بكنية الصغير. ويسنّ أن يكنى من له أولاد بأكبر أولاده ويسنّ لولد الشخص وتلميذه وغلامه أن لا يسميه باسمه والأدب أن لا يكني الشخص نفسه في كتاب أو غيره إلا إن كان لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من الاسم.

تنبيه : ذكر في الآية ثلاثة أمور مرتبة بعضها دون بعض كما علم من تقريرها (بِئْسَ الِاسْمُ) أي المذكور من السخرية واللمز والتنابز. وقوله تعالى : (الْفُسُوقُ) أي : الخروج من ربقة الدين (بَعْدَ الْإِيمانِ) بدل من الاسم لإفادة أنه فسق لتكرّره عادة. وروي أنّ الآية «نزلت في صفية بنت حيي أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنّ النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١)(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) أي : يرجع عما نهى الله عنه فخفف

__________________

(١) أخرجه بنحوه الترمذي في المناقب حديث ٣٨٩٤.

٥٥

على نفسه ما كان شدّد عليها (فَأُولئِكَ) أي : البعداء من الله تعالى (هُمُ الظَّالِمُونَ) أي الغريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها. وأدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء. واختلف عن خلاد والباقون بالإظهار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أوّل مراتبه (اجْتَنِبُوا) أي : كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم (كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) أي : في الناس وغيرهم واحتاطوا في كل ظنّ ولا تتمادوا معه حتى تجزموا بسببه.

تنبيه : أفهم ذلك أنّ من الظنّ ما لا يجتنب كما في الاجتهاد حيث لا قاطع وكما في ظنّ الخير في الله تعالى : ففي الحديث «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظنّ بي إلا خيرا» (١) بل قد يجب كما في قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] وقيل : نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما. «وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا غزا أو سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدّم لهما إلى المنزل فيهيء لهما طعامهما وشرابهما فضمّ سلمان الفارسيّ إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدّم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيىء لهما فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئا ، قال : لا غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطلب لنا منه طعاما فجاء سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وسأله طعاما فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عندك فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى رحله فأتاه فقال : ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فلما رجع قالا له : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما جاءا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما. قال ظلتم تأكلون لحم أسامة وسلمان فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ)(٢).

وقوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل مستأنف للأمر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث» (٣) والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه وجعل الزمخشري همزه بدلا من واو قال : لأنه يتم الأعمال أي يكسرها قال ابن عادل : وهذا غيره مسلم بل تلك مادّة أخرى.

قال سفيان الثوري : الظنّ ظنان : أحدهما : إثم وهو أن يظنّ ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظنّ ولا يتكلم به. وقوله تعالى (وَلا تَجَسَّسُوا) حذف منه إحدى التاءين أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعائبهم بالبحث عنها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» (٤) وقال عليه الصلاة والسلام : «يا معشر من آمن بلسانه ولم»

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٥٠٥ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٦٧٥ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٨٨ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨٢٢.

(٢) انظر البغوي في تفسيره ٤ / ٢٦١ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٢٥٤.

(٣) أخرجه البخاري في النكاح حديث ٥١٤٣ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٦٣.

(٤) هو تتمة الحديث رقم ٥١٤٣ عند البخاري ، ومسلم رقم ٢٥٦٣.

٥٦

«يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (١) ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك. وقيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا فقال : إنا نهينا عن التجسس وإن يظهر لنا شيئا نأخذه به.

تنبيه : قرأ ولا تنابزوا ولا تجسسوا ولتعارفوا البزي في الوصل بتشديد التاء والباقون بغير تشديد.

ولما كانت الغيبة أعمّ من التجسس قال : (وَلا يَغْتَبْ) أي : ولا يتعمد أن يذكر (بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي : في غيبته بما يكره. قال القشيري : وليس تحصل الغيبة للخلق إلا من الغيبة عن الحق وقال أبو حيان : قال ابن عباس : الغيبة إدام كلاب الناس.

وعن أبي هريرة «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقوله قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (٢) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنهم ذكروا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا فقالوا لا نأكل حتى يطعم ولا نرحل حتى يرحل فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اغتبتموه فقالوا : إنما حدّثنا بما فيه قال : حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه» (٣) وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن فإنّ تمزيق عرض الإنسان كتمزيق أديمه ولحمه كما قال تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ) وقرأ ميتا نافع بتشديد الياء والباقون بالسكون.

ولما كان الجواب قطعا لا يحب أحد ذلك أشار إليه بما سببه من قوله تعالى : (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي : بسبب ما ذكر طبعا فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرّمة عقلا لأنّ داعي العقل بصير عالم وداعي الطبع أعمى جاهل.

تنبيه : في هذا التشبيه إشارة إلى أنّ عرض الإنسان كدمه ولحمه لأنّ الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم وهذا من باب القياس الظاهر لأنّ عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه ، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى ، لأنّ ذلك أشدّ ألما وقوله تعالى لحم أخيه آكد في المنع لأنّ العدوّ يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ وفي قوله تعالى : (مَيْتاً) إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال : إنّ الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأمّا الاغتياب فلا اطلاع عليه فلا يؤلم ، فيقال لحم الأخ وهو ميت أيضا لا يؤلم ومع هذا هو في غاية القبح كما أنه لو اطلع عليه لتألم فإنّ الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه وفيه معنى لطيف وهو أنّ الاغتياب أكل لحم الآدمي ميتا ولا يحل أكله إلا للمضطرّ بقدر الحاجة والمضطرّ إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدمي فكذلك المغتاب إذا وجد

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٨٨٠.

(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٨٩ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٨٧٤ ، والترمذي في البر حديث ١٩٣٤ ، والدارمي في الرقاق حديث ٢٧١٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٠ ، ٣٨٤ ، ٣٨٦.

(٣) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ٨ / ١٨٩ ، والبغوي في شرح السنة ١٣ / ١٤٠ ، وتفسيره ٦ / ٢٢٩ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٣٢٨.

٥٧

لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب. قال مجاهد : لما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا قالوا : لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا. قال الزجاج : تأويله أنّ ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك.

قال الرازي : وفي ضمير فكرهتموه وجوه : أظهرها : أن يعود إلى الأكل. وثانيها : أن يعود إلى اللحم أي : فكرهتم اللحم. وثالثها : أن يعود إلى الميت في قوله تعالى ميتا تقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا متغيرا فكرهتموه فكأنه صفة لقوله ميتا ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة تستطاب نادرا ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلا. فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة وذلك يحقق الكراهة ويوجب النفرة إلى حدّ لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذا كراهية شديدة. وكذلك حال الغيبة.

وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافير من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (١) وقال ميمون بن سنان : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي كل هذا قلت يا عبد الله ولم آكل هذا قال إنك اغتبت عبد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرّا قال ولكن سمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا يغتاب عنده.

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بطاعته معطوف على ما تقدّم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله (إِنَّ اللهَ) أي : الملك الأعظم (تَوَّابٌ) أي : مكرّر للتوبة وهي الرجوع عن المعصية إلى ما كان قبلها من معاملة التائب وإن كرّر الذنب فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت (رَحِيمٌ) يزيده على ذلك بأن يكرمه غاية الإكرام.

تنبيه : ختم سبحانه وتعالى الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقال ههنا (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً) فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر. وقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : كافة المؤمن وغيره (إِنَّا) أي : على ما لنا من العظمة (خَلَقْناكُمْ) أي : أوجدناكم من العدم على ما أنتم عليه من المقادير (مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية مبين ومقرّر لما

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٨٧٨.

٥٨

تقدّم ، لأنّ السخرية من الغير وغيبته إن كان ذلك بسبب غير الدين والإيمان فلا يجوز لأنّ الناس بعمومهم كافرهم ومؤمنهم يشتركون فيما يفتخر به المفتخر ، لأنّ التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنيا والمؤمن فقيرا وبالعكس.

وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيبا والمؤمن مولى وعبدا أسود وبالعكس ، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون ومتقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى. كما قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي آدم وحوّاء فأنتم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.

قال ابن عباس : «نزلت في ثابت بن قيس. وقوله للرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من الذاكر فلانة. قال ثابت : أنا يا رسول الله فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود. قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى» (١) فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) [المجادلة : ١١] الآية وقال قتادة : «لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد أغبر من هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به رب العالمين رب السموات فأتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بما قالوه فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية» وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.

تنبيه : الحكمة في اختيار النسب مع أنّ غيره من جملة أسباب التفاخر ولم يذكر الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لأنّ النسب أعلاها لأنّ المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار الغني المفتخر به عليه والسمن والحسن وغير ذلك لا يدوم. والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله تعالى للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى فإن قيل : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ) أجيب : بأنّ فائدته أنّ كل شيء يترجح على غيره فإمّا أن يترجح بأمر فيه يلحقه ويرتب عليه بعد وجوده. وإمّا أن يترجح عليه بأمر قبله فالذي بعده كالحسن والقوّة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء.

وأمّا الذي قبله فإما راجع إلى أصله الذي وجد فيه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك هذا من نحاس وهذا من فضة ، والثاني كقولك هذا عمل فلان وهذا عمل فلان. فقال تعالى : لا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله تعالى فإن كان عندكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى. ولما كان تفصيلهم إلى فرق كل منها يعرف به أمرا باهرا عبر فيه بنون العظمة فقال تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ) أي بعظمتنا (شُعُوباً) جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات الإنسان مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج (وَقَبائِلَ) أي : تحت الشعوب وذلك أنّ

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٨٤.

٥٩

طبقات النسل التي عليها العرب سبعة الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة والعشيرة وكل واحد يدخل فيما قبله فالقبائل تحت الشعوب والعمائر تحت القبائل والبطون تحت العمائر ، والأفخاذ تحت البطون ، والفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصيّ بطن وعبد مناف فخذ وهاشم فصيلة والعباس عشيرة. قال البغوي : وليس بعد العشيرة حي يوصف ا. ه. وسمي الشعب شعبا لتشعب القبائل منه واجتماعهم به كتشعب أغصان الشجرة والشعب من الأضداد يقال شعب أي : جمع ومنه شعب القدح وشعب أي : فرّق والقبائل واحدها قبيلة سميت بذلك لتقابلها شبهت بقبائل الرأس وهي قطع متقابلة. وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني اسرائيل وقيل : الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب والنسبة إلى الشعب شعوبية بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب والعمائر واحدتها : عمارة بفتح العين والبطون واحدتها : بطن. والفصائل : واحدتها فصيلة. والعشائر : واحدتها : عشيرة. وقال أبو روق الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم.

ثم ذكر تعالى علة الشعب بقوله تعالى : (لِتَعارَفُوا) أي : ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له لا لتفاخروا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) أي المتفاخرون (عِنْدَ اللهِ) أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أخبركم بكرمه ولا كمال لأحد سواه (أَتْقاكُمْ) أي : أرفعكم منزلة عند الله أتقاكم. قال قتادة : في هذه الآية أكرم الكرم التقوى وألأم اللؤم الفجور وقال عليه الصلاة والسلام «الحسب المال والكرم التقوى» (١) وقال ابن عباس «كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى» وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه وهو عصا محنية الرأس فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه فقال : الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية يعني كبرها وفخرها الناس رجل تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم تلا (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» (٢) وعن أبي هريرة قال «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّ الناس أكرم. قال : أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : فأكرم الناس يوسف نبيّ الله بن نبيّ الله بن نبيّ الله بن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا : نعم. قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» (٣) بضم القاف على المشهور وحكي كسره ومعناه إذا تعلموا أحكام الشرع.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» (٤) قال الرازي في المراد

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٧١ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢١٨ ، ٤٢١٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ١.

(٢) أخرجه البغوي في شرح السنة ١٣ / ١٢٣ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٤١٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٩٨.

(٣) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٧٤ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٧٨ ، والدارمي في المقدمة حديث ٢٢٣.

(٤) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٦٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٤٢ ، ٤١٤٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٨٥ ، ٥٣٩.

٦٠